فصل: تفسير الآية رقم (87):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بـ «تفسير البيضاوي»



.تفسير الآيات (72- 80):

{قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آَتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)}
{قَالَتْ يَا وَيْلَتِي} يا عجباً، وأصله في الشر فأطلق على كل أمر فظيع. وقرئ بالياء على الأصل. {ءأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا} ابنة تسعين أو تسع وتسعين. {وهذا بَعْلِى} زوجي وأصله القائم بالأمر. {شَيْخًا} ابن مائة أو مائة وعشرين، ونصبه على الحال والعامل فيها معنى اسم الإِشارة. وقرئ بالرفع على أنه خبر محذوف أي هو شيخ، أو خبر بعد خبر أو هو الخبر و{بَعْلِى} بدل. {إِنَّ هذا لَشَئ عَجِيبٌ} يعني الولد من هرمين، وهو استعجاب من حيث العادة دون القدرة ولذلك: {قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَتُ الله وبركاته عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} منكرين عليها فإِن خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوة ومهبط المعجزات، وتخصيصهم بمزيد النعم والكرامات ليس ببدع ولا حقيق بأن يستغربه عاقل فضلاً عمن نشأت وشابت في ملاحظة الآيات، وأهل البيت نصب على المدح أو النداء لقصد التخصيص كقولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة. {إِنَّهُ حَمِيدٌ} فاعل ما يستوجب به الحمد. {مَّجِيدٌ} كثير الخير والإِحسان.
{فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبراهيم الروع} أي ما أوجس من الخيفة واطمأن قلبه بعرفانهم. {وَجَاءتْهُ البشرى} بدل الورع. {يجادلنا في قَوْمِ لُوطٍ} يجادل رسلنا في شأنهم ومجادلته إياهم قوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطاً} وهو إما جواب لما جيء به مضارعاً على حكاية الحال أو لأنه في سياق الجواب بمعنى الماضي كجواب لو، أو دليل جوابه المحذوف مثل اجترأ على خطابنا أو شرع في جدالنا، أو متعلق به أقيم مقامه مثل أخذ أو أقبل يجادلنا.
{إِنَّ إبراهيم لَحَلِيمٌ} غير عجول على الانتقام من المسيء إليه. {أَوَّاهٌ} كثير التأوه من الذنوب والتأسف على الناس. {مُّنِيبٌ} راجع إلى الله، والمقصود من ذلك بيان الحامل له على المجادلة وهو رقة قلبه وفرط ترحمه.
{يَا إِبْرَاهِيمَ} على إرادة القول أي قالت الملائكة {يَا إِبْرَاهِيمَ}. {أَعْرِضْ عَنْ هذا} الجدال {إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبّكَ} قدره بمقتضى قضائه الأزلي بعذابهم وهو أعلم بحالهم. {وَإِنَّهُمْ اتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} مصروف بجدال ولا دعاء ولا غير ذلك.
{وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيْءَ بِهِمُ} ساءه مجيئهم لأنهم جاؤوه في صورة غلمان فظن أنهم أناس فخاف عليهم أن يقصدهم قومه فيعجز عن مدافعتهم. {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} وضاق بمكانهم صدره، وهو كناية عن شدة الانقباض للعجز عن مدافعة المكروه والاحتيال فيه. {وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ} شديد من عصبه إذا شده.
{وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} يسرعون إليه كأنهم يدفعون دفعاً لطلب الفاحشة من أضيافه. {وَمِن قَبْلُ} أي ومن قبل ذلك الوقت. {كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} الفواحش فتمرنوا بها ولم يستحيوا منها حتى جاؤوا يهرعون لها مجاهرين. {قَالَ يَا قَوْمِ هؤلاءآء بَنَاتِى} فدى بهن أضيافه كرماً وحمية، والمعنى هؤلاء بناتي فتزوجوهن، وكانوا يطلبونهن قبل فلا يجيبهم لخبثهم وعدم كفاءتهم لا لحرمة المسلمات على الكفار فإنه شرع طارئ أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه حتى إن ذلك أهون منه، أو إظهاراً لشدة امتعاضه من ذلك كي يرقوا له.
وقيل المراد بالبنات نساؤهم فإن كل نبي أبو أمته من حيث الشفقة والتربية وفي حرف ابن مسعود {وأزواجه أمهاتهم} وهو أب لهم {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} أنظف فعلاً وأقل فحشاً كقولك: الميتة أطيب من المغصوب وأحل منه. وقرئ: {أَطْهَرُ} بالنصب على الحال على أن هن خبر بناتي كقولك: هذا أخي هو الأفضل فإنه لا يقع بين الحال وصاحبها. {فاتقوا الله} بترك الفواحش أو بإيثارهن عليهم. {وَلاَ تُخْزُونِ} ولا تفضحوني من الخزي، أو ولا تخجلوني من الخزاية بمعنى الحياء. {فِى ضَيْفِى} في شأنهم فإن إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه. {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح.
{قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا في بَنَاتِكَ مِنْ حَقّ} من حاجة {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} وهو إتيان الذكران.
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِى بِكُمْ قُوَّةً} لو قويت بنفسي على دفعكم. {أَوْ اوِى إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} إلى قوي أبلغ به عنكم. شبهه بركن الجبل في شدته. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «رحم الله أخي لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد» وقرئ: {أَوْ آوِى} بالنصب بإضمار أن كأنه قال: لو أن لي بكم قوة أو أوياً وجواب لو محذوف تقديره لدفعتكم روي أنه أغلق بابه دون أضيافه وأخذ يجادلهم من وراء الباب فتسوروا الجدار، فلما رأت الملائكة ما على لوط من الكرب.

.تفسير الآية رقم (81):

{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)}
{قَالُواْ يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ} لن يصلوا إلى إضرارك بإضرارنا فهون عليك ودعنا وإياهم، فخلاهم أن يدخلوا فضرب جبريل عليه السلام بجناحه وجوههم فطمس أعينهم وأعماهم، فخرجوا يقولون النجاء النجاء فإن في بيت لوط سحرة. {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} بالقطع من الإِسراء، وقرأ ابن كثير ونافع بالوصل حيث وقع في القرآن من السرى. {بِقِطْعٍ مّنَ اليل} بطائفة منه. {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} ولا يتخلف أو لا ينظر إلى ورائه والنهي في اللفظ لأحد وفي المعنى للوط. {إِلاَّ امرأتك} استثناء من قوله: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} ويدل عليه أنه قرئ فأسر بأهلك بقطع من الليل إلا امرأتك، وهذا إنما يصح على تأويل الالتفات بالتخلف فإنه إن فسر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير وأبي عمرو بالرفع على البدل من أحد، ولا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنه خلفها مع قومها أو أخرجها فلما سمعت صوت العذاب التفتت وقالت يا قوماه فأدركها حجر فقتلها، لأن القواطع لا يصح حملها على المعاني المتناقضة، والأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله: {وَلاَ يَلْتَفِتْ} مثله في قوله تعالى: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} ولا يبعد أن يكون أكثر القراء على غير الأفصح، ولا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات بل عدم نهيها عنه استصلاحاً ولذلك علل طريقة الاستئناف بقوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} ولا يحسن جعل الاستثناء منقطعاً على قراءة الرفع. {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} كأنه علة الأمر بالإِسراء. {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} جواب لاستعجال لوط واستبطائه العذاب.

.تفسير الآية رقم (82):

{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82)}
{فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا} عذابنا أو أمرنا به، ويؤيده الأصل وجعل التعذيب مسبباً عنه بقوله: {جَعَلْنَا عاليها سَافِلَهَا} فإنه جواب لما وكان حقه: جعلوا عاليها سافلها أي الملائكة المأمورون به، فأسند إلى نفسه من حيث إنه المسبب تعظيماً للأمر فإنه روي: أن جبريل عليه السلام أدخل جناحه تحت مدائنهم ورفعها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح الكلاب وصياح الديكة ثم قلبها عليهم. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا} على المدن أو على شذاذها. {حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ} من طين متحجر لقوله: {حِجَارَةً مّن طِينٍ} وأصله سنك كل فعرب. وقيل إنه من أسجله إذا أرسله أو أدر عطيته، والمعنى من مثل الشيء المرسل أو من مثل العطية في الإِدرار، أو من السجل أي مما كتب الله أن يعذبهم به وقيل أصله من سجين أي من جهنم فأبدلت نونه لاماً. {مَّنْضُودٍ} نضد معداً لعذابهم، أو نضد في الإِرسال بتتابع بعضه بعضاً كقطار الأمطار، أو نضد بعضه على بعض وألصق به.

.تفسير الآية رقم (83):

{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)}
{مُّسَوَّمَةً} معلمة للعذاب. وقيل معلمة ببياض وحمرةً. أو بسيما تتميز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمى بها. {عِندَ رَبّكَ} في خزائنه. {وَمَا هي مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ} فإنهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم، وفيه وعيد لكل ظالم. وعنه عليه الصلاة والسلام: «أنه سأل جبريل عليه السلام فقال: يعني ظالمي أمتك ما من ظالم منهم إلا وهو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة» وقيل الضمير للقرى أي هي قريبة من ظالمي مكة يمرون بها في أسفارهم إلى الشام، وتذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.

.تفسير الآية رقم (84):

{وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)}
{وإلى مَدْيَنَ أخاهم شُعَيْباً} أراد أولاد مدين بن إبراهيم عليه الصلاة والسلام، أو أهل مدين وهو بلد بناه فسمي باسمه. {قَالَ يَا قَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مّنْ إله غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} أمرهم بالتوحيد أولاً فإنه ملاك الأمر ثم نهاهم عما اعتادوه من البخس المنافي للعدل المخل بحكمة التعاوض. {إِنّى أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} بسعة تغنيكم عن البخس، أو بنعمة حقها أن تتفضلوا على الناس شكراً عليها لا أن تنقصوا حقوقهم، أو بسعة فلا تزيلوها بما أنتم عليه وهو في الجملة علة للنهي. {وَإِنّى أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} لا يشذ منه أحد منكم. وقيل عذاب مهلك من قوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} والمراد عذاب يوم القيامة أو عذاب الاستئصال، ووصف اليوم بالإِحاطة وهي صفة العذاب لاشتماله عليه.

.تفسير الآية رقم (85):

{وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)}
{وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان} صرح بالأمر بالإِيفاء بعد النهي عن ضده مبالغة وتنبيهاً على أنه لا يكفيهم الكف عن تعمدهم التطفيف، بل يلزمهم السعي في الإِيفاء ولو بزيادة لا يتأتى بدونها. {بالقسط} بالعدل والسوية من غير زيادة ولا نقصان، فإن الازدياد إيفاء وهو مندوب غير مأمور به وقد يكون محظوراً. {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءهُمْ} تعميم بعد تخصيص فإنه أعم من أن يكون في المقدار، أو في غيره وكذا قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ} فإن العثو يعم تنقيص الحقوق وغيره من أنواع الفساد. وقيل المراد بالبخس المكس كأخذ العشور في المعاملات، والعثو السرقة وقطع الطريق والغارة. وفائدة الحال إخراج ما يقصد به الإِصلاح كما فعله الخضر عليه الصلاة والسلام. وقيل معناه ولا تعثوا في الأرض مفسدين في أمر دينكم ومصالح آخرتكم.

.تفسير الآية رقم (86):

{بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)}
{بَقِيَّتُ الله} ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزه عما حرم عليكم. {خَيْرٌ لَّكُمْ} مما تجمعون بالتطفيف. {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} بشرط أن تؤمنوا فإن خيريتها باستتباع الثواب مع النجاة وذلك مشروط بالإِيمان. أو إن كنتم مصدقين لي في قولي لكم. وقيل البقية الطاعة كقوله: {والباقيات الصالحات} وقرئ: {تقية} الله بالتاء وهي تقواه التي تكف عن المعاصي.
{وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أحفظكم عن القبائح، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها وإنما أنا ناصح مبلغ وقد أعذرت حين أنذرت، أو لست بحافظ عليكم نعم الله لو لم تتركوا سوء صنيعكم.

.تفسير الآية رقم (87):

{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)}
{قَالُواْ يا شُعَيْبٌ أصلواتك تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَا} من الأصنام، أجابوا به آمرهم بالتوحيد على الاستهزاء به والتهكم بصلواته والإِشعار بأن مثله لا يدعو إليه داع عقلي، وإنما دعاك إليه خطرات ووساوس من جنس ما تواظب عليه. وكان شعيب كثير الصلاة فلذلك جمعوا وخصوا الصلاة بالذكر. وقرأ حمزة والكسائي وحفص على الإفراد والمعنى: أصلاتك تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأن الرجل لا يؤمر بفعل غيره. {أَوْ أَنْ نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} عطف على ما أي وأن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا. وقرئ بالتاء فيهما على أن العطف على {أَن نَّتْرُكَ} وهو جواب النهي عن التطفيف والأمر بالإِيفاء. وقيل كان ينهاهم عن تقطيع الدراهم والدنانير فأرادوا به ذلك. {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} تهكموا به وقصدوا وصفه بضد ذلك، أو عللوا إنكار ما سمعوا منه واستبعاده بأنه موسوم بالحلم والرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.

.تفسير الآية رقم (88):

{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)}
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيّنَةٍ مّن رَّبّي} إشارة إلى ما آتاه الله من العلم والنبوة. {وَرَزَقَنِى مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا} إشارة إلى ما آتاه الله من المال الحلال، وجواب الشرط محذوف تقديره فهل يسع مع هذا الإِنعام الجامع للسعادات الروحانية والجسمانية أن أخون في وحيه، وأخالفه في أمره ونهيه. وهو اعتذار عما أنكروا عليه من تغيير المألوف والنهي عن دين الآباء، والضمير في {مِنْهُ} لله أي من عنده وبإعانته بلا كد مني في تحصيله. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَا أنهاكم عَنْهُ} أي وما أريد أن آتي ما أنهاكم عنه لأستبد به دونكم، فلو كان صواباً لآثرته ولم أعرض عنه فضلاً عن أن أنهى عنه، يقال خالفت زيداً إلى كذا إذا قصدته وهو مول عنه، وخالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس، {إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} ما أريد إلا أن أصلحكم بأمري بالمعروف ونهيي عن المنكر ما دمت أستطيع الإِصلاح، فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه، ولهذه الأجوبة الثلاثة على هذا النسق شأن: وهو التنبيه على أن العاقل يجب أن يراعي في كل ما يأتيه ويذره أحد حقوق ثلاثة أهمها وأعلاها حق الله تعالى، وثانيها حق النفس، وثالثها حق الناس. وكل ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به وأنهاكم عما نهيتكم عنه. و{مَا} مصدرية واقعة موقع الظرف وقيل خبرية بدل من {الإصلاح} أي المقدار الذي استطعته، أو إصلاح ما استطعته فحذف المضاف. {وَمَا تَوْفِيقِى إِلاَّ بالله} وما توفيقي لإصابة الحق والصواب إلا بهدايته ومعونته. {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} فإنه القادر المتمكن من كل شيء وما عداه عاجز في حد ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار، وفيه إشارة إلى محض التوحيد الذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ. {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} إشارة إلى معرفة المعاد، وهو أيضاً يفيد الحصر بتقديم الصلة على الفعل. وفي هذه الكلمات طلب التوفيق لإِصابة الحق فيما يأتيه ويذره من الله تعالى، والاستعانة به في مجامع أمره والإِقبال عليه بشراشره، وحسم أطماع الكفار وإظهار الفراغ عنهم وعدم المبالاة بمعاداتهم وتهديدهم بالرجوع إلى الله للجزاء.